لم يدع الناقد الدكتور سعيد السريحي «ملتقى الشعر الخليجي» يطوي صفحته في حضن ورد الطائف، عقب يومين احتفائيين بالقصيدة، والشعراء، دون أن يعبّر عن مكنون آثر أن يحتفظ به زمناً إلى أن فاض به الكيل فأطلق نيرانه الصديقة على رفاق مرحلة الحداثة في المملكة عبر لافتة اعترافات نشرها على منصة x ؛ وطرحت «عكاظ» على السريحي عدداً من الأسئلة حول تغريداته الأخيرة فجاءت إجاباته كالتالي:
• انتقد كثير من المعقبين عليك أنك نصَّبت نفسك نائباً عن غيرك من النقاد وكان الأولى أن تتحدث عن نفسك دون الإشارة إلى النيابة عن غيرك؟
•• يا صديقي للإنابة في هذا المضمار غير ما لها في غيرها، نحن هنا، في مضمار الاعترافات، لسنا أمام القضاء، كما أننا لسنا في البورصة العقارية، الإنابة هنا لا تعني التفويض، الإنابة تعني أنني أدينهم كما أدين نفسي، أدين نفسي أولاً ثم أدينهم، ليست المسألة مسألة شخصية، لست وحدي المقصر، لو كنت وحدي من قصر في الدور الذي كان ينبغي أن يقوم به النقد لم تكن هناك قضية، الإنابة عن غيري تعني أنني أرى أننا جميعاً مقصرون، الصديق مبارك الخالدي لامني أن «توكأت» على غيري من النقاد، وأقول له يا صديقي من يشعل النار في ثيابه وثياب من حوله لا يتوكأ عليهم وإنما يزج بنفسه وبهم في أتون الحقيقة المرة.
• تحدثت عن صمتكم عن هشاشة وضعف كثير من شعر أولئك الشعراء الذين يمثلون الآباء المؤسسين لحركة الحداثة، هل تملك الجرأة فتخرج من التلميح للتصريح فتضرب أمثلة على ذلك؟
•• المسألة لا تحتاج إلى جرأة، المسألة تحتاج إلى استشعار الأمانة وتحمل المسؤولية، ولذلك لا أجد حرجاً في أن أضرب أمثلة لذلك، وسأبدأ بأصدقائي الذين يعرفون مكانتهم في نفسي:
- أصدر عبدالله الصيخان ديوانه «هواجس في طقس الوطن» عقب أن استخلص فيه ما نضج من تجربته وضرب صفحاً عن تلك القصائد التي كانت تشكل المحاولات الأولى التي لم تنضجها التجربة، ثم عاد إثر 15 عاماً ليجمع تلك القصائد التي نزه ديوانه الأول عنها ليصدرها في ديوان «الغناء على أبواب تيماء»، فهل همس أي واحد منا في أذنه: يا عبدالله ليس هذا هو الشعر الذي يمثلك ويمثل القصيدة التي كنت أول المبشرين بها.
- نتابع ما ينشره الصديق العزيز محمد جبر الحربي منذ فترة من الزمن من أبيات وقصائد لا يمكن لها أن تنتمي للشعر، فضلاً عن انتمائها للحداثة التي يعد من المؤسسين لها، فهل قال له واحد منا ما الذي تصنعه بنفسك وتاريخك يا محمد؟ هل قال له أي منا إن من يكتب هذه الكتابات لا يمكن أن يكون هو الذي كتب خديجة.
- وسعد الحميدين، صاحب أول ديوان ينتمي لحركة الحداثة، «رسوم على الحائط» عام 1977، هل كلف واحد منا نفسه وقال له يا سعد ما تكتبه الآن لا يمثل إلا انتكاسة في تجربتك المؤسسة للقصيدة الحديثة.
• هل أخفق مشروع الحداثة في المملكة بسبب هذه المحاباة المُتكلفة؟
•• لم يخفق مشروع الحداثة ولن يخفق، مشروع الحداثة أكبر وأشمل من أن يكون مشروعاً للشعر وللنقد، نحن نحيا أجمل تجليات الحداثة في كل ما حولنا، الحداثة باعتبارها رؤية للإنسان وللحياة وللعالم من حولنا، ولم يخفق مشروع الحداثة في الشعر كذلك، هناك شعراء يكتبون من الشعر ما يمكن أن يضع الشعر على عتبة جديدة ويمضي به نحو آفاق من الدهشة والمفاجأة، لم أتحدث عن إخفاق، وأولئك الذين توهموا أن اعترافاتي إعلان لإخفاق الحداثة ثم طاروا بذلك فرحاً، إنما رأوا فيها ما يتمنونه، وعليهم أن يدركوا أن ما كتبتُ ليس أكثر من مراجعة داخل حركة الحداثة لتعزيزها وتكريس قيمها وصيانتها من الداخل.
• ألا تخشى من ردود أفعال غاضبة أو ناقمة؟ وتخسر صداقات؟
•• أنا حريص على أصدقائي كل الحرص، وأحمل لهم من الود ما يعلمونه وأعلم كذلك أنهم يحملون لي نفس القدر من الود، ولكنني أكثر حرصاً على الصدق، وثقتي في تفهمهم لدور النقد وتقبلهم لمرارة النقد ستحول دون أن أخسرهم، يا صديقي دعني أؤكد لك أنني أكسب أصدقائي بيدي المبسوطة لمصافحتهم، وقلبي الذي يستبشر برؤيتهم وابتسامتي التي تسبقني إليهم، وليس بأساليب المجاملة التي لا تليق بهم قبل أنها لا تليق بي.
• لماذا هذا التوقيت بالتحديد؟ هل من مُثير استجابت له الذاكرة الناقدة؟ أم هو شعور بعقدة ذَنْبٍ ما بسبب الخطأ في حق الإبداع؟
•• ليس هناك توقيت محدد أو مقصود، هذه المسألة، أو لأقل المساءلة، ظلت تشغلني منذ فترة من الزمن وتتجدد كلما استوقفني صمتي، وصمت زملائي من النقاد عما بات يكتسح الشعر من تجارب تدّعي الشعر، وليس فيها ولا بينها وبين الشعر نسب، وتدّعي الوصل بالحداثة والحداثة منها براء، ثم تعود هذه المسألة أو المساءلة تشغلني كلما قرأت نصاً رفيعاً من الشعر ثم لا أكلف نفسي ولا يكلف واحد من زملائي من النقاد نفسه ليكتب دراسة لهذا النص تجيب عن السؤال الجوهري للنقد: ما الذي يجعل من هذا النص نصاً إبداعياً؟ هذا إذا استثنيت الأحكام الانطباعية العجلى والتصفيق في مواسم الشعر.
• ألم تخش من ارتباك صورة الناقد الأوسع أفقاً (سعيد السريحي) أمام المُتلقي؟
•• أكنّ للمتلقي كل احترام وتقدير، ولكنني لم أكن قط حريصاً على تجميل صورتي أمام المتلقي، ولم أكن كذلك معنياً بثبات هذه الصورة أو ارتباكها، هناك ما هو أهم عندي من هذا كله، أن أكون صادقاً مع نفسي ومع هذا المتلقي، وأن أكون أميناً مع ما أنا مؤمن به، يا صديقي انزع عني ما شئت من الصفات واترك لي صفة واحدة، صفة الصدق، فقد دفعت ثمن الصدق غالياً.
• هل يمكن لنقد المراحل أن يسهم في تصحيح المسار؟
•• لست أعرف تماماً ما تعنيه بنقد المراحل، أعرف أن هناك وظيفة للنقد ينبغي لها أن تكون محايثة لكل مراحل الإبداع، وظيفة تتمثل في الإجابة عن سؤال ما الذي يجعل من النص نصاً إبداعياً، والإجابة عن سؤال «لماذا هذا النص نص رديء؟»، هذه الوظيفة هي الكفيلة بالمحافظة على المسار، بحيث لا نجد أنفسنا أمام مسار نحتاج تصحيحه وربما يتعذر علينا هذا التصحيح.
• هل ينسحب ما قلته عن النقد في ساحتنا الوطنية على الساحات النقدية في العالم العربي؟
•• هناك مشكلة أساسية في النقد على مستوى العالم العربي، وهي مشكلة تتعلق بتعاليه على النقد المعياري، ذلك النقد الكفيل بمواجهة النصوص التي تنوء بالأخطاء والانحرافات عن مقاصد الشعر، النصوص التي لا تتوفر فيها القيمة الفنية التي تجعل من الشعر شعراً، غياب هذا النقد أفضى إلى تناسل الرداءة التي لا تكاد تخلو منها ساحة من ساحات الشعر في العالم العربي، ليس ذلك فحسب وإنما أفضى إلى اختلاط الشعر الجيد بالرديء فتشابهت التجارب وأصبح الشعر حرفة من لا حرفة له.
• هل أكننت هذه القناعات ثلاثة عقود دون أن تبوح بشيء منها؟
•• تبلورت هذه القناعة خلال هذه العقود، وحين شعرت بوطأة حمل هذه الأمانة كتبت ما كتبت، كنت أعجب من تهافت تجارب كثير من الشعراء الذين ساهموا في تأسيس حركة الحداثة، وأعجب من صمتنا عن هذا التهافت، كنت أعجب من تلك الأسماء التي تعتلي المنابر لتقول شيئاً هو أشبه بأي شيء عدا الشعر، وأعجب من صمتنا عن كل ذلك، واكتفائنا بأن نندب حال الشعر في جلساتنا على هامش الملتقيات، وكأنما نحن نخجل أو نخاف أن نصرح بما نتداوله بيننا، أو كأنما بتنا أعلى شأناً من أن نُعنى بما نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا.
• هل سلم النقد من المحسوبين عليه أو شأنه شأن الشعر؟
•• للنقد وقفة أخرى حين يحين حينها.
• هل ما زلت راضياً عن تجربة سيد البيد؟
•• دعك من مسألة الرضا، ودعني أحدثك عن أمر آخر، محمد الثبيتي أصدر ثلاثة دواوين، خلال أربعة أعوام، كان ثالثها «التضاريس»، وحينما استشعر مسؤوليته أمام الشعر وما شكلته له قصيدة التضاريس من مأزق لم يصدر ديواناً واحداً بعده، وديوانه الرابع «موقف الرمال» نشره أصدقاؤه بعد 19 عاماً على صدور «التضاريس». ودعني أستشهد بشاعرين كبيرين، عبدالكريم العودة، ومحمد زايد الألمعي، إصرار الرجلين على عدم جمع تجربتهما يُعدّ موقفاً نقدياً استشعرا فيه مسؤوليتهما تجاه الشعر، وكأنما كلاهما كان يتطلع إلى أفق أعلى وأسمى مما تحقق لهما، أين أولئك الذين يتباهون بعدد دواوينهم وقصائدهم واللغات التي ترجمت لها من هذين الشاعرين الكبيرين.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر منقول وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.