للفنون في تاريخ الأمم والشعوب أثر معنوي وحسي. فالفن لأي مكون بشري دليل تحضر وتمدن وتشبع مجتمعاته بالقدرة على استشعار وتهجي الجمال، وانضباط وارتقاء ذائقتهم، ومثالية ورهافة حسهم الإنساني، ووجدانهم، ما يحببهم في العدل والإحسان، وينفرهم من الظلم والعبث والإساءة والطغيان.بالتزمت يسهل دفع البشر للموت، وبالفنون نُضاعفُ تعلقهم بالحياة، وتمسكهم بها، ومن عادة الأحزاب الدينية المتطرفة اعتماد منهج التيئيس وتأصيل مشاعر عدوان وتوحّش في المستهدف، لينعزل وينفر من البشر، وليكون مطواعاً ومَرِناً نفسياً وجسدياً وذهنياً، ليغدو آلة يوظفها المتحكم به، بدءًا من تضييق الدنيا في عينيه، وتوسيع الخيالات في دماغه، وتكبير الأحلام في نفسه، بتغذية راجعة تغري باقتحام الجحيم، مع وعد بتخليد ذكراه، وخلود مثواه. وترويح القلوب إصلاح للأرواح التي لو أُكرهت لملّت ونفرت، والذي أنزل الأديان أعلم بخلقه (ألا يعلم من خلق؟)، والنبي عليه الصلاة والسلام نموذج وقدوة في التوازن بين حاجات الجسد، وتطلّعات الروح، ومتطلبات العقل والوعي، فالمتوازن معتدل، والمتعنت شاطّ، والعوائد والأعراف والعادات الاجتماعية ناشئة عن الفطر السوية.في زمن الإنتاج لم يكن الفن بمعزل عن يوميات المنتجين، فالتعب البدني لا يخفف ثقله سوى شيء من التطريب والغناء الراقي المتصل بالوجدان اتصال الحبل السري برحم الأم وكفل الجنين، وفي زمن الصحوة اعتمد منظروها على عزل الشبان عن محيط الأسرة، ليبدأ المهندسون تنفيره وتزهيده فيما اعتاده من مباحات، لتعقبها مراحل الترهيب والتخويف من العقوبات المنتظرة في الآخرة، ثم تأتي مرحلة التأزيم، تليها حقبة (الفن البديل) بصوت الرصاص الملعلع، والتدريب على الرماية، وترديد أهازيج تدغدغ النشوة الصبيانية وتجنح باليافع لتتلبسه حالة تيه بالتدين، وطيش وعداء مع الواقع.حدثني صديق ذهب لأفغانستان في الثمانينات، وقال «عندما عُدتُ من (الجهاد) كما أطلق عليه حينها، لم آلف البيت، ولم أشعر بأي عاطفة تجاه أهلي، وخامرتني أفكار بترك العمل والعودة لقندهار رغبة في الموت والاستشهاد»، وهذا النموذج وغيره، مما توثقه عشرات من القصص الواقعية تفسّر مهارة الصحويين في تفخيخ الأدمغة والأرواح بالتعبئة المتأزمة ليكون الشاب فاقداً حس الانتماء، ليسهل قياده وتكليفه بأي مهمة، لأنه يشعر باسوداد الكون من حوله وانغلاق السبل إلا سبيل الانتحار والانفجارات.هذه المنهجية الخطيرة انبنت على فقه التشدد، والتنطع، وتحريم الفنون بما فيها الموسيقى والغناء، وتفسيق المجتمع الطربي، بل وتكفيره إن لزم الأمر.. والحزبيون المتزمتون يتمسكون بآثار موضوعة أو ضعيفة لتحريم الفن، ليدخلوا الأفراد في حالات احتقان يستثمرونها في تثوير الشعوب ضد أوطانها وقياداتها الشرعية.قال أحد المحللين لثورات ما سمي بالربيع العربي كان المحركون لإحدى المظاهرات ينتظرون هزيمة فريق كرة القدم ليشعلوا الفتنة بالمشجعين المفتونين باللعبة، كون الخسارة مُؤثرا نفسيا على الجماهير ويحتاجون لتنفيس الاحتقان بالنزول للشوارع، ما يدل على استثمار أعداء الأوطان لأي حالة وركوب أي موجة.الإنسان السويّ مكون من جسد وروح ونفس ومشاعر وتلبية احتياجات كل مكوّن تبني شخصية تصالحية محبة للحياة ومتسامحة مع الأحياء. والفنون تعيد التوازن بين العناصر ليمكن للإنسان مواصلة دوره ومهامه في الدنيا، والتأمل في الكون يشعرنا بتناسق وتناغم اللون مع الصوت والصورة بأبعادها المُجنّحة بالخيال لما وراء ظواهر الأشياء.ظاهرة الفتاوى المتشددة طارئة، والطارئ لا حكم له، ولا تعويل عليه، فالكنائس اعتنت بالنقوش، والمساجد زخرت بالزخرفة، وفخامة البناء، والمعابد توارثت تراتيل القداس.ومما جاء عن النبي عليه السلام التغني بالقرآن، وشواهد عناية الأديان بالفنون أكثر من أن تُحصى كونها قائمة على الحُبّ والعدل والحق والجمال، وجميعها مقومات إحياء لا إماتة، وأفراح لا أحزان، وتفاعل إيجابي لا انفعال سلبي.إعلاء شأن الفنون بناء لمواطن سوي ومنتم للحياة، ولا سبيل لذلك إلاّ بتخليص الإسلام من «أدلجة بعض المسلمين» وإعادة جوهر ديننا إلى مهمته المتمثلة في بناء وتعزيز الأخلاق والمُثُل وتنقية العقيدة من الشركيات ورفع الروح المعنوية للإنسان بما يبهج ويسر الخاطر والناظر، ما يسهم في رد الاعتبار للمعنى الإنساني للدِّين.لا تحريم للفنون في الإسلام إلا بما هو ظنّي الثبوت، أو ظنّي الدِلالة، وفكرة الغناء بدأت دينية في جميع الحضارات، وجاءت في سياق استرضاء المحب لمحبوبه، وأدخلت عليها الآلات لرفع مستوى الشجن، ومنها نشأت ابتهالات بعض المنشدين في المساجد كل صباح، ومن الكتب المقدسة ما أطلق عليها المزمور، والسِفْر مقتطف من المزامير، والمزمور صوت الأصابع الضاربة على آلة وتريّة، ما يعني أن للفنون «الراقية» قداستها في التاريخ القديم باعتبارها وسيلة لتبليغ الوصايا السماوية، ولتأثيرها في قلوب الأرضيّين.الفنون لا تتجزأ، والأديانُ ليست ضد الفنون لأنها مع الحياة، والتجديد لا الركود، ومع الجمال ضد القبح، وفي صف الرُقيّ لمواجهة الإسفاف، ولصالح السمو تفادياً للانحطاط، ونواتها الإبداع المتجدد لا التقليد البالي.